لعبت الفنون بأشكالها المختلفة دورًا مهمًا في التاريخ السياسي لدول المنطقة، إذ وظِفت دومًا من جانب النخب السياسية الحاكمة لتحقيق غايات وأهداف محددة، أهمها على الإطلاق التأثير على الرأي العام وتوجيه بوصلته نحو وجهة محددة.
وشهد الوسط الفني العربي خلال السنوات الأخيرة موجات عاتية من الأعمال الفنية التاريخية، التي اقتصرت في البداية على المواسم الرمضانية، ثم تجاوزت ذلك وباتت ظاهرة عامة، وتحولت هذه النوعية من الأعمال إلى سباق للتنافس وليست أعمالاً موسمية.
وشكلت الدراما التلفزيونية منذ بدايتها عنصر جذب لجمهور المشاهدين وكانت وما زالت تستلزم خلق أسس فكرية رصينة يتأسس عليها الإبداع الدرامي فالمتلقي العربي واع ومثقف، وهو بحاجة ماسة إلى مجهود فكري يترجم إلى فن درامي واقعي يعبر عن هموم الشعوب وقضاياها، والفنان المبدع هو الذي يجسد عملاً فنياً راقياً يعبر عن المجتمع ليقدم عملاً أكثر جاذبية، والأعمال الدرامية هي واحدة من أهم أدوات القوة الناعمة، فمن خلالها تستطيع أن تبث أفكارك وتوجهاتك إلى كل بيت وتمتلك القدرة على التحكم بالصورة الذهنية والفكر الجمعي على مستوى الدولة.
وتعد الدراما التاريخية سلاحًا من أمضى أسلحة الثقافة؛ فهي القادرة على جعل الوعي بالتاريخ طاقات فكرية والأقدر على توظيف الدروس والعبر لخدمة قضايا ومشكلات وتحديات الواقع المعاصر، فالتاريخ مسألة ذاتية من الدرجة الأولى، والكثير منها يخضع لخيال المؤلف وأهواء المنتج وإبداع الممثل، ومن ثم ليس شرطًا أن يخرج العمل بالصورة التي وقعت بها الأحداث على أرض الواقع تاريخيًا، فلا بد من التدخل الفني حتى يكون العمل مقبولاً لدى الجماهير، ومع ذلك تفتقد العديد من الأعمال التاريخية المصداقية والموضوعية، ومن ثم فهي بعيدة تمامًا عن الأحداث التي وقعت خلالها.
ومع تعدد وتنوع الأشكال الدرامية أصبح الاستثمار الدراميّ في التاريخ متجدّد محل توسع بعد الإقبال الكبير عليها حيث تكمن الخطورة في تعاطي الجمهور مع الدراما التاريخيّة على أساس أنّها تعيد حبك الأحداث التاريخيّة، أو تعيد تصحيح التاريخ وتصويب مساراته، والتغافل عن فكرة أنّ المعالجة الدراميّة المفعمة بالتشويق الفني تبقى في ميدان الصناعة والفن، وتكون الحقيقة المتخيلة في زوايا أخرى، لا في الصدارة كما قد يخيّل للبعض.
وهنا على المتابع التمييز بين الدراما كصناعة والدراما كتاريخ مفترض، كي لا يضيّع بوصلته بين الحقيقة والتمثيل، ومع ضعف التكوين الثقافي والتاريخي للمجتمعات العربية وارتفاع نسبة الشباب الذين يستمدّون معلوماتهم من مواقع التواصل الاجتماعي فإن القائمين على الأعمال الدرامية التاريخية يقدمون التاريخ على مسؤوليتهم وإن غيّروا فيه فلن يجدوا من يحاسبهم".
والرسالة التي ننقلها للمهتمين بالمعرفة التاريخية أن يبحثوا عنها في كتب التاريخ وليس في الروايات والحكايات الشعبية، وهي المساحة المتاحة لصانع العمل الدرامي حيث تكون مساحة كبيرة لحرية الإبداع تكون بعيدة بشكل محدود عن الرصانة التاريخية.
عربياً من المشاكل الفنية التي تلاحق الدراما التاريخية العربية هشاشة الحبكة الدرامية، والسيناريو وعدم توافر إنتاجات عربية تاريخية مرتبطة بالمنطقة بالشكل الكافي وهو ما أدي بشكل كبير إلى ضعف جودة المسلسلات الموجودة، في حين أن العوامل المفسرة لنجاح المسلسلات التركية التاريخية جاء من باب القيمة الفنية والإبداعية.
يبدو أن الدراما التاريخية التي هي من أخطر أنواع الفنون وتوظف بشكل كبير في النزاعات السياسية خلال المرحلة المقبلة، مستغلة قلة الوعي المجتمعي القادر على التمييز بين الحدث التاريخي والمعالجة الدرامية، وخاتمًا ليس حلالاً أو حراماً لأي جهة أن تقدم تاريخها السياسي والاجتماعي بشكل درامي فهذا حق للجميع عرباً وأتراك فرس وعجم..
ليست هناك تعليقات