شكلت مهرجانات الأمس والاحتفالات كسراً لروتين الحياة اليومية، حيث يتوقف الروتين اليومي ويتزين العموم للمشاركة في المهرجانات، ويتدفق سكان المدينة والقرى التي حولها ناحية المسرح، ويجتمع القاصي والداني تقديساً لهذا اليوم والمشاركة في اللهو والمرح والاستمتاع باللحظات النادرة التي لا تتكرر إلا في مواسم محددة.
وفي عالمنا العربي وفي هذا الزمان مع شيوع حالات الفقر والتشكي وارتفاع البطالة الحقيقية والمقنعة وانتشار الحاجة والشكوى من سوء الحال، انتشرت المهرجانات التي خصصت بشكل متعمد "وإلى حدٍ ما" لأبناء جيل الألفية "Generation Z" التي عادت للانتشار بعد توقفها في زمان كوفيد 19، وأصبحت حالة مقرفة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، ففي أشد فترات العرب انحطاطاً وانتشار دور النخاسة، ومجالس اللهو والتعلق بالخمر ووصفها أنها غذاء للروح، بقيادة عرابها الحسن بن هانئ المعروف بـ أبي نواس ما كان هذا حالنا.
مجون اليوم المصور يحفل بالخلفيات الملونة والأزياء الغريبة تصاحبها مساحيق تعكس وجهًا شيطانيًا لإخفاء الحقيقية وصناعة الوهم فتحصل المتعة اللحظية عند الجمهور، وعندما يتراقص المهرج على المسرح ويتنطط ثم يسكت ويدعي الإغماء والارتماء على خشبات المسرح ولا مانع من تجاوز أحد المعجبين أو المعجبات الحاجز لمعانقة ذلك المهرج الماجن لنصل إلى النهاية السعيدة ويحقق مزيداً من التفاعل.
الجرعة الحسية التي ترافق مثل هذا النوع من الاستعراضات عند المهرج الماجن هي الضوء، فتلعب الإضاءة والمرايا المنعكسة على الجمهور تأثيراً لا يمكن تجاهله لترتفع وتيرة السكرة والنشوة اللحظية، وكلما كانت المبالغة حاضرة كانت السكرات أكثر وأعلى تأثيراً.
أما طبيعة الجمهور المشارك مع المهرج الماجن في مثل هذه الحالات تجده محتشداً متراصاً وكأنه في معركة مما يخلق شعوراً بالعدوى وتختفي الفطرة السليمة ليلتحق الفرد بالجماعة وينخرط في سلوكها رقصاً وصياحاً وتحرشاً وتخريباً إن تطلب الأمر، وذات الصف الأول من الجمهور هو من يلاحق المهرج الماجن من مسرح إلى مسرح وإن كان من ميسوري الحال من دولة إلى دولة.
المهرج الماجن وباقي صحبه من الاستعراضيين لهم ذات الشكل، وذات قصة الشعر، وغالباً ما يرتدون ذات الملابس لوناً وماركة، ويستخدمون نفس العبارات والكلمات التي تدفع الجمهور للتفاعل معهم والضحك والتعليق على منشوراتهم، وإن كانوا من جماعة الوشم فتجدهم مشاركين في انتهاك حرمة أجسادهم وكأنهم تربوا في بيت دجال واحد.
يتعامل المهرج الماجن مع الوقت وكأنه مخلد فما أن تغيب الشمس حتى يخرجوا من جحورهم ومع ارتفاع وتيرة الإغواء يجد مؤيدوا المهرج الماجن من رواد مسرحه المبررات للمشاركة متخذين من مقولات الراحة من الكدح والتعب مبرراً للانخراط المستمر في "سفالته الفنية" وهم في قرار أنفسهم يعرفون أنهم بلا أعباء وبلا تكليف من قبل أسرهم يعيشون عالة على من يكفلهم.
حفلات العالم العربي لن تنتهي والكثير منها عبثٌ في المعنى والكلمة والوقت والصورة والأخلاق وكأن الجميع في مسلسل طويل لن ينتهي، وفي هذه البيئات الجدية والرجولة والأخلاق لا وجود لها، والمصرح به فقط التسلية وما تؤول إليه، يطربون لإغواء الشيطان ويسترشدون بمنهج ابي نواس القائل:
دع المساجد للــعباد تسكنها وطف بنا حول خمار ليسقينا
ما قال ربك ويل للذين سكروا ولكن قال ويل للمـصلينا
أسرفنا في تعهرهنا وأسرفنا في صناعة المهرج الماجن ونسينا غضب الله وعقابه، وحتى أبو نواس الذي عاش ماجنًا تحول زاهداً في نهاية حياته وقال:
يا رَبَّ إن عَظُمَت ذُنُوبي كثرة فلقد عَلِمتُ بِأنَّ عفوكَ أعظَمُ
إن كان لا يرجوكَ إلا مُحسِنٌ فبِمَن يَلُوذُ ويستجِيرُ المُجرِمُ؟
ارتكاب المآثم والدعوة إلى التحلل الأخلاقي، ومجانبة الآداب بدعوى الحرية الفكرية سيرتد علينا اليوم أو غداً وسنحصد ما زرعنا هزيمةً وذُلًا بعد أن تسيد المهرج الماجن الساحات ووفرنا لهم أسباب رزقهم فتخلوا عن كل فضيلة وارتدوا وأسرفوا في ثياب العهر والنتيجة أن تحول المكان والزمان إلى بيئة مريضة في أخلاقها فلا ترجوا منهم أحداً.
ليست هناك تعليقات