هدأت العاصفة الرقمية وتبخرت الأحلام وعاد كل مغرد إلى قواعده سالماً بحثاً عن ترند آخر، هذا باختصار حال المجتمع الرقمي في الأردن...انتهت الفزعة الكاذبة، وتبقى فتاة سهول سحاب ووالدها وقصة أحمد الخليلي الذي صعد الترند من غرائب المجتمع الأردني الذي يتعاطف مع أي قضية، وسواء كان حديث فتاة سهول سحاب ووالدها وقضية الخليلي وما دار حوله كذب أو صدق فهذا أمر لا يمثل لي أي أهمية؛ فنحن أصلاً في دار الخيال ودار الحقيقة لم نصلها بعد؛ ولكن ما لفت انتباهي الفزعات الكاذبة والاستغلال لمشاعر الجمهور وهو ما يستحق تسليط الضوء عليه.
تمثل منصات التواصل الرقمي بارومتر الديمقراطية، وهي منبر الفقراء والمساكين ممن لا حول لهم ولا قوة، ولكن واقع الحال يُبين أنها تحوّلت إلى وسيلة لتزييف الواقع وتضليل الوعي وفبركة الأحداث وفق ما تمليه عليهم قوى المال والسياسة، وفي قضية سهول سحاب ركزت الآلة الإعلامية محلية وإقليمية على قصة الفتاة ووصل عدد التغريدات في #مطعم_سهول_سحاب إلى (6,264) تغريدة خلال الفترة من 28 آب إلى 2 سبتمبر 2022، وهذا حرفياً يؤكد أن من يسيطر على مناخ الإعلام الرقمي في الأردن يركز على جوانب الحدث التي تخدم أجندته ويتجاهل تماماً كل ما يناقض أهدافه وسياساته، فالأمر أصبح تضليلاً وتحريفاً منهجياً للواقع، فمثلاً هناك قضايا مصيرية مرت بها الأردن ولم نجد هذه الفزعة الكاذبة ومنها قضايا وجودية مهمة متعلقة بالحقوق والحريات.
ما يحدث هو أشبه بما نظر له المفكر الكبير نعوم تشومسكي "التعامل مع الشعب وكأنه طفل غير ناضج" من خلال إعلانات ومواقف يروج لها باستخدام مفردات تُنحت خصيصا للتعبير عن مواقف محددة، ثم إشعال جدال بطريقة مبسطة وركيكة، وكأن المتلقي طفل أو ناقص عقل، بحيث لا يتم التفكير بهذا القرار من زاوية نقدية، ولهذا تمر الممارسة الإعلامية "الرقمية والتقليدية" في أيامنا هذه بأسوأ مراحلها حيث اختراقات بالجملة للموضوعية والحيادية، فتم بقصد تدجين الطبقة المثقفة ودفعهم للهجرة أو الصمت، وتأسيس طبقة عامة تنقاد خلف الشهوات وأصبحت الحياة الإعلامية داخل الأردن أشبه بحياة سكان المقابر صمت مطلق "وما يستوي الأحياء ولا الأموات ۚ إن الله يسمع من يشاء ۖ وما أنت بمسمع من في القبور".
صنعت عمليات التدجين مهجرين من نوع آخر قادوا مزامير الإعلام فأصبح القطيع يسير خلفهم، هؤلاء "القادة"، وهم من يصنعون نهار الإعلام وليلة حتى مطلع الفجر، وبفعل التصرفات القائمة على الإلهاء دخلنا ليل التاريخ، وغياب الجغرافيا، وقاب قوسين أو أدني أن نكون مثل الجارة التي دخلت في عصر ما بعد الحضارة بعد أن كانت تشع نوراً وعلماً وثقافة، فتبخر الإبداع وظهر إنسان جديد بفعل التدجين يتقن التمثيل وخاصة دور "المهرج الصعلوك" وتبخر المثل الأعلى فمن قاد عملية التدجين مارس عمله بحرفية كبيرة وهي اللعب على العواطف أكثر من الفكر باستخدام الغرائز والالتفاف على أي تفسير عقلاني للأحداث هذه الطريقة تفتح الطريق أمام الغيبية على حساب الواقعية لتطبيق أفكار أو خلق مخاوف ومشاعر وردود أفعال تلقائية مؤيدة.
ما يحدث بساطة عمليات إلهاء منظمة فنحن نشارك دون أن نتحقق أو ندقق في الفعاليات الرقمية في حجة احتساب الأجر أو المساهمة في الخير أو البحث عن مفقود أو بسبب الرغبة في التوافق والانسجام مع المجموعة، ونتخذ قرارات المشاركة في صناعة الترند بشكل غير عقلاني غالباً لتقليل الصراع، حيث يتجنب بعض الفاعلين الرقمين طرح وجهات النظر التي قد تؤدي إلى عدم توافق الآراء من قبل العامة في محاولة منهم بأن لا يظهروا في صورة الحمقى أو لتجنب غضب الجمهور.
وأخيراً.. السقوط حتمي لكل شيء أما الصعود فهو قرار ويحتاج إلى طاقة، وصناعة الإعلام اليوم بطريقة مطعم سهول سحاب وغيره صناعة تفبرك الواقع أكثر مما تشرحه وتفسره، وما تقدمه للرأي العام هو تزوير الواقع والتلاعب بعقول الجماهير لإرضاء حفنة صغيرة يفوق في خطورته أكبر الأعمال الإرهابية.
ليست هناك تعليقات