مع تعدد القنوات الفضائية كثرت الإعلانات على شالكة "وداعاً للضعف الجنسي، علاج أمراض القلب والسكر دون زيارة طبيب، تخسيس في أسبوع من دون رجيم، وأجهزة الفحولة والذكورة وأدوية علاج الأمراض والخلطات الشعبية للكلف وحب الشباب وتبيض المناطق الحساسة، وافخر انواع العطور ومستحضرات التجميل والمشروبات والسجائر في بعض الفضائيات العربية ومختلف أنواع مساحيق التجميل والغسيل، كلّها نماذج إعلانات تمرّ بكثافة على الفضائيّات العربية دون تدقيق.
قي الإعلان لابد من التأكيد على أن خصوصية التلفزيون كجهاز ناقل للصورة تذهل وعلى الرغم أن التلفزيون مؤسسة لا يقتضي نشاطها بيع برامج إلى المشاهدين، وإنما بيع الجمهور إلى المعلنين، فالمشاهدون هم سوق المستهلكين، ولهذا يرى "ريجيس دوبريه" أن الثقافة البصرية تتخلق بأخلاق الآلة التي تحملها، والتلفزيون، يتطلب السرعة والمباشرة والآنية، والصورة الجميلة، والأنوثة، والإثارة، والألوان الحية، هو مكوناً أصيلاً للتسلية، ومتوافق تماماً مع غايته ويدخل الإنسجام في الأمور المتنوعة.
ولهذا أصبح التلفزيون وسيلة جمع مال وليس عرض أفكار، وليس من طبيعته إثارة النقد ونقل الأفكار، إنما شيء ما من القبول الاجتماعي، فتصبح الثقافة البصرية تبعاً لهذا التخلق ثقافة مجزأة مفتتة سطحية استهلاكية.
إن الذكاء والحيل المستخدمة في بناء الإعلان التلفزيوني (السيناريو واختيار الممثلين وتوقيت العرض) لا يمكن أن تتم إلا بتوافق ما بين الوسيلة الناقلة والشركة المنتجة، ولهذا فالجاذبية التي يتمتع بها الإعلان جاذبية من طرف واحد، إذ سرعان ما يسقط الفرد تحت احتكار التبعية للمعلن والانقياد لأوامره فتتعطل القيم الحامية للموروث لصالح هيمنة الإعلان المطلقة.
لقد أدى تراكم الأموال لدى مؤسسات الإعلان إلى تغولها؛ فتحولت إلى مراكز ومواقع مؤثرة في العمل الإعلامي والثقافي، وهو الأمر الذي دفع ببعض منتجي الأنشطة الثقافية إلى الوقوف عند بوابة شركات الإعلان توسلاً لدعمها ومسانداتها، وتحولت المهرجانات الثقافية إلى "فرص" إعلانية في حسابات اقتصادية مجردة، حتى الجوائز الثقافية أضحت تحمل فيروس الإعلان التجاري.
وكما يرى "ناعوم تشومسكي" أن عولمة الإعلام هي الزيادة الضخمة في الإعلان، خاصة الإعلان عن السلع الأجنبية، والتركيز في ملكية وسائل الإعلام الدولية، وبالتالي انخفظ التنوع والمعلومات مقابل الزيادة في التوجه نحو المعلن، لهذا فإن العولمة هي التوسع في التعدي على القوميات من خلال شركات عملاقة مستبدة يحركها الاهتمام والربح، وتشكل وعي الجمهور وفق نمط خاص، يدمن من خلالها الجمهور على أسلوب حياة قائم على حاجات مصطنعة، ولا يدخل مطلقاً في الحياة السياسية، ويزعج أو يهدد النظام المسيطر على المجتمع.
ولهذا فإن مُشاهد التلفزيون يتعرض لما يمكن تسميته بـ فوضى الإعلانات فمع وجود أكثر من إعلان في الفاصل الواحد فأنه ينسى ما يشاهده وينشط المعلنون بالمقابل في ابتكار وسائل جديدة لجذب مزيداً من الجمهور، وفي المقابل أثر الإعلان التجاري في حيادية وسائل الإعلام وصدقيتها، فتحول الإعلان التجاري إلى وسيلة ضغط تمارسها الحكومات وكبرى الشركات لضمان الولاء المطلق، وغدا الإعلان التجاري الذي يعد مورداً وممولاً أساسياً للفعاليات الإعلامية المستقلة وسيلة مؤثرة بيد الشركات الكبرى التي تتوفر لها الأموال للصرف على الحملات الإعلانية في مختلف وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية.
وبما أن أغلب تلك الشركات تعبّر عن مصالح أجنبية، فإن ممارسة الإبتزاز تتسع وتتجذر لتأخذ مساراً ضاغطاً على حرية أداء القنوات الفضائية، حيث يمارس الإعلان تأثيره على مخططي البرامج لضمان حشد أكبر كمية من الدقائق الإعلانية على حساب الذوق العام، دون مراعاة حق المتلقي في متابعة البرامج من دون انقطاع أو تدخل جائر، وتوسعت أيضاً ظاهرة حملات الرعاية، أي إنتاج برامج تحت رعاية شركات تجارية، بحيث تفرض شروط الممول الاقتصادي على سياسة البرامج أو حتى على الوسيلة الإعلامية.
وعبر سياسة الإعلان التجاري وشروطه يتسرب الفساد والإفساد إلى مواقع التأثير الرئيسية في المؤسسات الإعلامية، فليس من الضروري أن تكون الرشوة المادية مباشرة، بل تشمل تسهيلات ومساعدات وخدمات أخرى، وهذا لا يشمل فقط القنوات الفضائية، وإنما إلى مختلف الوسائل الإعلامية، وبالمقابل يصبح الإعلان أداة عقاب لكل صوت مخالف ومعارض، عبر منح الإعلان إلى الموالين، ونمطاً من أشكال الرقابة والابتزاز وخنق لأصوات المعارضة.
مثل هذا التأثير دفع بجمعية مؤلفي الدراما العربية إلى التأكيد بأن تقطيع العمل الدرامي بالإعلانات التجارية هو تفسيخ للنص وتشويهه بالإعلانات، بالمقابل يرى القائمون على الفضائيات، بأن الخدمة المجانية التي يقدمونها لمشاهديهم، ستجعل من النموذج التجاري لقنواتهم يعتمد على الدعاية الإعلانية، وبالتالي لا يمكن تجاوز الإعلانات ما دامت هي مصدر تمويلهم الأساسي.
في القراءة الواقعية للجدل الدائر حول الأزمة بين الإعلام والإعلان نخلص إلى أن المشكلة ليست في تضمين الدرامي مواد إعلانية، وإنما في مساحة هذه الأخيرة مقارنة بمدة العمل الدرامي، وبطبيعة المواد الاستهلاكية التي يتم الإعلان عنها، وبالتالي يبدو أن نقاشاً مثمراً لعلاقة الإعلام والإعلان لا بد أن يتجاوز مسألة إلغاء الإعلان، نحو ترشيد بثه ضمن المادة التلفزيونية، ونوعية المادة التي يعلن عنها ومدى انسجامها مع المادة التلفزيونية، فضلاً عن مناقشة كيفية عدم الخضوع لأهواء المعلن والتحرير من سطوته تمهيداً للانتقال من سيادة الإعلان، إلى سيادة الإعلام.
المطلوب من الفضائيات الحكومية الانتصار لدورها الإعلامي الحقيقي، فقدرتها المالية ودعم الحكومات لها من شأنه أن يعيد ترتيب العلاقة بين الإعلان والإعلام، ولنتصور أي منهما سيكون خيار الجمهور، قناة تعرض العمل الدرامي دون توقف إعلاني أو بمساحات إعلانية محدودة، أم متابعة متقطعة للعمل ذاته على قناة ثانية مهما كان موقعها وأهميتها.
يسلم قلمك ابدعت وصلنا الى قمة الانحطاط والتلاعب في اذواق المشاهد
ردحذف