عندما كتب الأستاذ بيار جورد في جامعة استندال- غرينوبل الفرنسية الثالثة، كتابه آلة توليد البلاهة منتقداً الإعلام الفرنسي، ومؤكداً أن وسائل الإعلام عرفت كيف تعطي أبعادًا ضخمة جدًا للرغبة العامة في البلاهة التي تكمن حتى داخل أكثر المثقفين نخبوية، فمن شأن هذه الظاهرة أن تدمر مجتمعاً بأكمله، وجعل أي مجهود سياسي من دون جدوى.
وبالأمس فصل جديد من فصول قناة بداية، والحق هذه القناة كلها فصول وغرائب، تلاعب بمشاعر إنسانية لأحد المتسابقين وإبلاغه أن والدة انتقل إلى رحمه الله.. رحم الله المتوفي وربط على قلوب أهلة وابنه الذي أستقبل الخبر على الهواء مباشرة..
كإعلامي أكدا أجزم أن الفكرة التي كانت تدور في ذهن مشرف الفترة والمعد هي: الحصول على أعلى معدل مشاهدة، وهذا حق طبيعي للجميع ولكن ليس على حساب مشاعر وجروح المشارك، ومن ناحية مهنية اتفق مع الأستاذ عبدالعزيز العريفي الذي رفض تصرف المعد ومشرف الفترة ووصف التصرف بــ "الغبي والأحمق"، وهو الجزء الظاهر من المشكلة.
ولكن الجزء الخفي الذي يتم تجاهله من قناة بداية وأخواتها من الإعلام الفضائي الأصفر السطحية في المعالجة الإعلامية، فهذا التسطيح قادنا بإرادتنا نحو المذبح، حيث تغلغلت السطحية الإعلامية في فكرنا وإعلامنا، وقضت على كل حصون الممانعة الاجتماعية والثقافية، وبالتالي هُزمنا بأيدينا بعد أن تنازلنا طوعاً عن قيمنا الضابطة.
وضمن هذه المخالفة يمكن سرد قائمة طويله من تجاوزت قناة بداية وأخواتها، تلك القنوات تعمل بعقلية ضرري أقل من غيري، علماً أن للجميع الحقّ في الترفيه فضائياً، فالتلفزيون نشأ أصلاً كوسيلة ترفيه وليس تعليم؛ ولكن المدى الذي وصلت إليه البرامج الترفيهية تُبعِدها عن مجرّد التسلية، فالصور والكلمات تُخضِع العقل إلى بعض أشكال التماثُل وتشرّعها، فنعتاد على الاعتقاد بأنّ هذه طريقةٌ طبيعيةٌ للكلام والتفكير والممارسة، أما استغلال الأحداث الإنسانية لتحقيق مزيدًا من الكسب والتعاطف وزيادة المتابعين والمشاهدين فهذا يتنافى مع أبسط القواعد المنظمة للحقوق الإنسانية بين المجتمعات.
لن أجدال كثيراً في آلية تنفيذ البرامج الترفيه وخصوصاً برامج الواقع والقائمة على التقليد أصلاً لبرامج مستنسخ؛ فلا هي أبدعت في التقليد وفي نفس الوقت أضاعت هويتها التي ولدت مشوهة أصلاً، فظهرت برامجها سطحية لا تحمل فكراً أو ثقافة وتاريخاً.
لذلك فحصر الجمهور في إطار ضيق والتحجير على عقله ببرامج لا تسمن ولا تغني من جوع رقص وصراخ وتقليد على حساب المصالح الإنسانية، ومع اتساع رقعة الفضائيات الصفراء عربياً؛ إلا أنها تدور في نفس الفلك من الأهداف، فيشعر المشاهد المسكين بالعجز ويفقد القدرة على الإنتاج والإبداع ويعلق عمل عقله الذي يبقى مبهوراً بالنماذج المرسلة إليه من مختلف الجبهات الإعلامية المشرعة على قيمه وأخلاقه، فالمعاناة تتحول إلى تهريج، والفقر يُصوَّر على أنه لطخة زيت أو ثوب ممزق، وقلق السيدات على أزواجهم أو أبنائهم يتحول إلى تصوير مفاتن جسد أنثوي.
وأصبح عقل الجمهور مغيّب يستقبل ما يقدم له دون تمحيص، فتعطل التفكير الذي أسهمت فيه البرامج، ونتج عنه عدم قدرة الجمهور على الحكم والنقد، وحتى الرفض لأي فكرة، وأصبح الجمهور متلقي ساذج لكل ما يبث دون محاكمة أو حتى مراجعة من طرف عقله الواعي أو اللاواعي، لأنّ عاملي الدهشة والانبهار التي تقوم عليها الصناعة الإعلامية طوّقته تماماً من مختلف الجهات كما يطوّق ثعبان "الأناكوندا" جسد الضحية ويسحق عظامها قبل افتراسها.
لقد برعت الفضائيات الصفراء في إيجاد أبعاداً ضخمة جداً للرغبة العامّة في البلاهة التي تكمُن حتى داخل أكثر المثقّفين نخبويّةً، ومن شأن هذه الظاهرة أن تدمّر مجتمعاً بأكمله، فما الفائدة من بذل جهود لإصلاح بعد اكتساحه بتقنيات التخلف، والتهريج الإعلامي الذي بات يصنّف على اعتبار أنه وسيلةً للتعبير، وبموجةٍ عارِمة لجمع المال والفرديّة، وسنكتشف بعد سنين أن مضمون ترفيهنا التلفزيوني يثير الاشمئزاز والسخرية لدى الأجيال القادمة، لذا فإن الاعتذار المقدر لرئيس مجلس إدارة القناة لا يكفي، ووصف التصرف بالغبي والأحمق جزء من الهروب إلى الأمام فالأصل معالجة التفاهة التي تحكم برامج الواقع بسطحيتها وشذورها عن المبدأ الأخلاقي الذي يحكم العلاقة ما بين الجمهور والوسيلة الإعلامية.
ليست هناك تعليقات