من أغرب ما ُرُوى من أفعال في التاريخ الإسلامي ما رواه الإمام ابن الجوزي لحادثة وقعت أثناء الحج في زمانه؛ إذ بينما الحجاج يطوفون بالكعبة ويغرفون الماء من بئر زمزم قام أعرابي فحسر عن ثوبه، ثم بال في البئر والناس ينظرون، فما كان من الحجاج إلا أن انهالوا عليه بالضرب حتى كاد يموت، وخلّصه الحرس منهم، وجاؤوا به إلى والي مكة، فقال له: قبّحك الله، لِمَ فعلت هذا؟ قال الأعرابي: حتى يعرفني الناس، يقولون: هذا فلان الذي بال في بئر زمزم!! وبالفعل سُجل في التاريخ رمزاً للسخافة.
المشهد الحالي في انحدار الإعلام الأردني وضمن برامج رمضان والمستمرة في الانحدار منذ سنوات تعليق ناديا الزعبي مقدمة برنامج صح صح على شاشة Amman TV على كلام زميلتها رهف صوالحة عندما كانت تتمنن على المتصلة "هتوف" بجائزة تتضمن زيارة مجانية الى أحد مراكز التجميل لنفخ شفتيها ... تتابع الزعبي "خلص شو تجميل .. اعطوها تونا وسردين".
هنا بالنسبة لي انتهت القصة وبدأت قصة أخرى مختلفة، المشهد الذي هيمن على مواقع التواصل كشف تشوهًا خطيرًا في منظومتنا الاعلامية الأردنية، فلا البرنامج قدم قيمة ولا السؤال كشف حقيقة بل صناعة تهريج وضحك بلا سبب ولو تحول النقاش إلى تعريف بالرسام العالمي ولوحاته وأشهرها ثم ضحكت المقدمتين ضحكتهما المجلجلة لكان مقبولاً..، على الأقل المشاهد استمع إلى معلومة مخلوطة بوقاحة...
ولكن ما حدث تهكم وسخرية وعنصرية واتهام بالكذب والغش.. وهذا أصبح مستساغ في عالم الترفيه فعدد القيم والأخلاق التي تم تحطيمها، والكرامة الإنسانية التي تم التجاوز عليها باسم الحرية؛ غير مهم طالما أن هناك من يتحمل تكاليف عمل المطارق وإلا كيف ظهر لنا مثل هذه البرامج والمقدمين والمقدمات فأصبح التنافس على استقطاب التافهين وأصحاب الظلال السوداء والقصص الحمراء وحبكات لواقع زائف غير موجود إلا عند من أبدع بالتلاعب باتجاهات الناس وقيمهم، وفي التأثير على سلوكهم من خلال برامج يدفع فيها المتصل من جيبه ثمن المكالمة عله يفوز بجائزة حتى لو كانت للترضية.
والكارثة التي لا يدركها الجمهور العربي في أغلبه؛ ويطبل ويرقص لها فرحاً أغلب القائمين على الشأن الإعلامي العربي الفضائي تحديداً؛ الغياب الكامل للتشريعات التي تنظم الصناعات الإعلامية في المنطقة العربية ونكاد نكون المنطقة الوحيدة في هذه المعمورة التي تغيب عنها الضوابط الأخلاقية التي تنظم الصناعات الإعلامية، رافق هذا الغياب التشريعي انفلات كامل وفوضى عرمة تجاوزات وطالت كل ما يبث على الشاشات العربية من دراما، أفلام، وحوارات وبرامج إخبارية.
وختاماً من مساوئ الإعلام الجديد أنه أتاح الفرصة لكل مترديه ونطيحة ليصبح مشهورًا وحتى نتوقف عن صناعة الحمقى والمهرجين بقصد أو غير قصد يجب علينا أولاً أن نقاطع تلك المنتجات لمحاصرة المفلسين، الذين جعلوا من سذاجتهم سبباً للارتقاء إلى أبواب الشهرة، ولو جاز لي المحاكمة بموجب القوانين التي تنظم النقل التلفزيوني في عرب سات ونايل سات لكان تهم "العنصرية والازدراء والتهكم والاتهام بالغش" هي المقصلة التي تقصف عمل صاحبة الضحكتين المجلجلتين وقناة Amman TV التي لا تنتمي إلى هويتنا هوية #هتوف كنشمية أردنية.. نهاية القول؛ واقع الاعلام بات بحاجة إلى تدخل مبكر وانعاش ينقذه قبل أن يلفظ آخر أنفاسه التي تعبر عن قيمنا العربية الأصيلة.
ليست هناك تعليقات